سبق الإسلام مختلف التشريعات والمواثيق والعهود والبروتوكولات الوضعية التي تدعو إلى إعلاء قيمة التسامح، وذلك بإعتباره الدين الخاتم، وكذلك رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذى بشرت به جميع الكتب السماوية السابقة.
ودعا علماء الدين إلى ضرورة نشر ثقافة التسامح بين الناس فى جميع المعاملات، مؤكدين فى الوقت نفسه أن التسامح ليس معناه القبول بالهوان والذلة، وأنه لا تعارض بين التسامح ومواجهة الظلم والفساد، وترك المجرمين دون محاسبة أو عقاب، وأوضحوا أن من أبلغ صور التسامح في الإسلام قبول الآخر وإحترامه، دونما السماح بالإعتداء على المقدسات، أو المساس بالثوابت الشرعية.
وأوضح الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء، أن الإسلام هو دين التسامح، والقدوة فى هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى أعطى التسامح إكبر مساحة فى المعاملات والتوجيهات، لدرجة انه أوذى هو ومن معه إشد الإيذاء والإضطهاد والإخراج من بلده بغير حق، قال تعالى {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، ومع هذا الظلم والأذى الذى لحق به صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، بل وفى يوم أُحد عندما كسرت رباعيته وشج وجهه الشريف وسالت منه دماؤه الطاهرة، وطلب منه صحابته أن يدعو عليهم، فرفض، ودعا لهم قائلا: اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون.
وحذر الدكتور أحمد عمر هاشم من الفهم الخاطئ لمعنى التسامح، إذ ليس معناه ترك الظالمين والفاسدين الذين يسعون في الأرض فسادا من ترويع للآمنين وتخريب للممتلكات العامة والخاصة، والإعتداء على حقوق الآخرين، دون محاسبة أو عقاب، لان هذا من شأنه زيادة الفساد وإعانة الظالمين على ظلمهم للآخرين، وهو ما لا يقبله أحد.
وفي سياق متصل يقول الدكتور نبيل السمالوطى، أستاذ علم الإجتماع فى جامعة الأزهر، إن الإسلام يعتبر أول من نبه إلى قيمة التسامح، بل إعتبرها فضيلة من الفضائل الكبرى، التي يجب أن يتصف بها المسلم فى كل أفعاله مع جميع الخلق، وقد أراد الله سبحانه وتعالى لخلقه أن يكونوا متنوعين، لان التنوع سنة إلهية فى الكون كله، قال تعالى فى كتابه العزيز: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118-119]، وأشار إلى انه إذا كان هذا التنوع سنة أرادها الله فى خلقه، فإنه يجب علينا أن نحترم ونتقبل هذا التنوع، بل ونتعايش معه، وهذا القبول والتعايش يعنى قبول الآخر، وقبول وإحترام حق الآخر فى الإختلاف، لان الله أراد للناس أن يكونوا مختلفين فى اللون والجنس واللغة والطبائع والأمزجة حتى فى المعتقدات، وأيضا فى الإتجاهات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والفكرية، وفيما يحبون وفيما يكرهون.
¤ قبول الآخر:
وأكد أن من أعلي معانى التسامح في الإسلام قبول الآخر، والآخر هنا هو المخالف فى الفكر أو الدين أو العقيدة أو الإتجاه أو اللون، كما يشمل معنى التسامح مع الآخر، إحترام حقه فى التعبير عن رأيه، وممارسة معتقداته بحرية، فقد كان الإسلام هو أول من أقر مبدأ حرية العقيدة، قال تعالى: {لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى} [البقرة:256].
وأوضح الدكتور نبيل السمالوطى أن التسامح فى الإسلام لا يصل إلى حد قبول الهوان والذل من الآخر، فالإسلام دين العزة والكرامة، ودين الإباء والشمم، قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون:8]، مشيرا إلى أن الإسلام يحترم الآخر لكنه فى الوقت نفسه يرفض الإذلال والإعتداء على المقدسات الإسلامية، كما يرفض تجاوز الثوابت الشرعية، فإذا كان المسلم يتسامح فى معاملاته، لكنه لا يقبل إمتهان أى مقدس من المقدسات الثابتة، وقد جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فى خطبة حجة الوداع واضحا فى تقرير إحترام وحرية حق الغير، والمحافظة على الدماء والأعراض والممتلكات، حيث قال صلى الله عليه وسلم «كلكم لآدم وآدم من تراب». إلى أن قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ألا اللهم بلغت اللهم فاشهد».
وطالب السمالوطي بنشر ثقافة التسامح بين الناس، بإعتباره واجبا على الجميع، خاصة فى الظروف التى تمر بها البلاد حاليا، وأن تعني بذلك المؤسسات التربوية والدعوية والدينية والتعليمية، وأن تقوم وسائل الإعلام بحملات توعية لتوضيح أهمية قيمة التسامح فى المعاملات، والتركيز على ما جاء فى القرآن الكريم والسنة المطهرة من نماذج قدمت أروع المثل فى معنى التسامح، وأيضا فى عصر الفتوحات الإسلامية.
بقلم: خالد المطعنى.
المصدر: الأهرام اليومى.